الخميس، 15 أغسطس 2013

بحث عالم الذر

بسم الله الرحمن الرحيم
(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ *وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
 
تفسير الاية :
أخذ الشيء من الشيء يوجب انفصال المأخوذ من المأخوذ منه واستقلاله دونه بنحو من الاَنحاء ، وهو يختلف باختلاف العنايات المتعلقة بها والاِعتبارات المأخوذة فيها
فمجرد ذكر الاَخذ من الشيء لا يوضح نوعه إلا ببيان زائد ، ولذلك أضاف الله سبحانه إلى قوله وإذ أخذ ربك من بني آدم الدال على تفريقهم وتفصيل بعضهم من بعض : قوله من ظهورهم ، ليدل على نوع الفصل والاَخذ ، وهو أخذ بعض المادة منها بحيث لا تنقص المادة المأخوذ منها بحسب صورتها ولا تنقلب عن تمامها واستقلالها ، ثم تكميل الجزء المأخوذ شيئاً تاماً مستقلاً من نوع المأخوذ منه
وقوله : وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ، ينبيء عن فعل آخر إلَهي تعلق بهم بعد ما أخذ بعضهم من بعض ، وفصل بين كل واحد منهم وغيره ، وهو إشهادهم على أنفسهم ، والاِشهاد على الشيء هو إحضار الشاهد عنده وإراءته حقيقته ليتحمله علماً تحملاً شهودياً ، فإشهادهم على أنفسهم هو إراءتهم حقيقة أنفسهم ليتحملوا ما أريد تحملهم من أمرها ، ثم يؤدوا ما تحملوه إذا سئلوا.
فقوله : ألست بربكم بيان ما أشهد عليه ، وقوله : قالوا بلى شهدنا ، اعتراف منهم بوقوع الشهادة وما شهدوه.
ولذا قيل إن الآية تشير إلى ما يشاهده الاِنسان في حياته الدنيا أنه محتاج في جميع جهات حياته من وجوده وما يتعلق به وجوده من اللوازم والاَحكام ، ومعنى الآية إنا خلقنا بني آدم في الاَرض وفرقناهم وميزنا بعضهم من بعض بالتناسل والتوالد وأوقفناهم على احتياجهم ومربوبيتهم لنا ، فاعترفوا بذلك قائلين بلى شهدنا أنك ربنا
اشكالات وردود:
وقد طرح القوم عدة من الروايات تدل على أن الآيتين تدلان على عالم الذر ، وأن الله أخرج ذرية آدم من ظهره فخرجوا كالذر فأشهدهم على أنفسهم وعرفهم نفسه ، وأخذ منهم الميثاق على ربوبيته ، فتمت بذلك الحجة عليهم يوم القيامة. وقد ذكروا وجوهاً في إبطال دلالة الآيتين عليه وطرح الروايات بمخالفتها لظاهر الكتاب.
1 ـ أنه لا يخلو إما أنه جعل الله هذه الذرية المستخرجة من صلب آدم عقلاء أو لم يجعلهم كذلك ، فإن لم يجعلهم عقلاء فلا يصح أن يعرفوا التوحيد وأن يفهموا خطاب الله تعالى ، وإن جعلهم عقلاء وأخذ منهم الميثاق وبنى صحة التكليف على ذلك وجب أن يذكروا ذلك ولا ينسوه ، لاَن أخذ الميثاق إنما تتم الحجة به على المأخوذ منه إذا كان على ذكر منه من غير نسيان ، كما ينص عليه قوله تعالى أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. ونحن لا نذكر وراء ما نحن عليه من الخلقة الدنيوية الحاضرة شيئاً ، فليس المراد بالآية إلا موقف الاِنسان في الدنيا وما يشاهده فيه من حاجته إلى رب يملكه ويدبر أمره وهو رب كل شيء.
2 ـ أنه لا يجوز أن ينسى الجمع الكثير والجم الغفير من العقلاء أمراً قد كانوا عرفوه وميزوه حتى لا يذكره ولا واحد منهم ، وليس العهد به بأطول من عهد أهل الجنة بحوادث مضت عليهم في الدنيا وهم يذكرون ما وقع عليهم في الدنيا كما يحكيه تعالى في مواضع من كلامه كقوله : قال قائل منهم إني كان لي قرين ، إلى آخر الآيات : الصافات ـ 51 وقد حكى نظير ذلك عن أهل النار كقوله : وقالوا ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الاَشرار. صَ ـ 62 إلى غير ذلك من الآيات.
3 ـ إن تفسير الآية بعالم الذر ينافي قولهم كما في الآية : إنما أشرك آباؤنا لدلالته على وجود آباء لهم مشركين ، وهو ينافي وجود الجميع هناك بوجود واحد جمعي
4 ـ أن الآية لا صراحة لها فيما تدل عليه الروايات لاِمكان حملها على التمثيل ، وأما الروايات فهي إما مرفوعة أو موقوفة ولا حجية فيها.
هذه جملة ما أوردوه على دلالة الآية وحجية الروايات ، وقد زيفها المثبتون لنشأة الذر وهم عامة أهل الحديث وجمع من غيرهم من المفسرين بأجوبة :
فالجواب عن الاَول ، أن نسيان الموقف وخصوصياته لا يضر بتمام الحجة وإنما المضر نسيان أصل الميثاق
والجواب عن الثاني ، أن الاِمتناع من تجويز نسيان الجمع الكثير لذلك مجرد استبعاد من غير دليل على الاِمتناع
والجواب عن الثالث ، أن الآية غير ساكتة عن إخراج ولد آدم لصلبه من صلبه فإن قوله تعالى : وإذ أخذ ربك من بني آدم ، كاف وحده
 عوالم وجـود الاِنسان
الاَقوال في عالم الذر ثلاثةعلى ما اورده صاحب الميزان (قدس سره) :
الاَول : نفي وجود عالم الذر ، والقول بأن ما ورد في الآية من إشهاد الناس وإقرارهم بالربوبية ، إنما هو تعبير مجازي عن تكوينهم الذي يهديهم إلى ربهم تعالى. وهو قول عدد من المتأثرين بالفلسفة اليونانية من القدماء ، وبالثقافة الغربية من المتأخرين.
الثاني : أن عالم الذر بمعنى أن الله تعالى استخرج نطف أبناء آدم  من ظهره ، ثم من ظهور أبنائه إلى آخر أب ، ثم كونهم بشكل معين وأشهدهم فأقروا ، ثم أعادهم إلى حالتهم الاَولى في ظهر آدم  وقد ذهب إليه بعض المفسرين من السنة والشيعة.
الثالث : أن عالم الذر هو عالم الملكوت والخزائن ، وهو الوجه الذي اختاره صاحب الميزان ; وأطال في الكلام حوله واختصر في الاِستدلال عليه.
ولكن يرد عليه إشكالات متعددة ، أهمها :
أولاً ، أن عالم الملكوت اسم عام لكل عوالم ملك الله تعالى ، وتفسير عالم الذر به لا يحل المشكلة ، لاَنه يبقى السؤال وارداً : في أي عالم من ملكوت الله تعالى تم خلق الناس وأخذ الميثاق منهم؟
ثانياً ، أن تفسير عالم الذر بعالم الملكوت تفسير استحساني لا دليل عليه ، وطريقنا إلى معرفة عوالم خلق الله وأفعاله سبحانه وتعالى ، محصور بما أخبرنا به النبي وآله صلى الله عليهم ، وما دل العقل عليه بدلالة قطعية ، لا ظنية أو احتمالية.
ثالثاً ، أن عوالم وجود النبي وآله  ووجود الناس قبل هذا العالم ، وردت فيها أحاديث كثيرة لا يمكن إغفالها في البحث كما لا يمكن دمجها في عالم واحدوهذه العوالم كلها من عالم الملكوت ومن خزائن ملكه تعالى ، ولكنها ليست نفس عالم الملكوت ولا الخزائن.
_________________
ـ تفسير الميزان للطباطبائي ج 8 ص 305 ـ 331
. لعقائد الاسلامية - جزء 1
المؤلف: مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
الناشر: مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
الطبعة: 1
 
نظريات تجرد النفس والادلةعليها :
 
اوردنا كل ماتقدم للنتعرف على تفسير الاية الكريمة لانها من امهات الاستشهادات التي وضفها القائلون بخلق الارواح قبل الاجساد وسنور في مايلي اراءهم واقوالهم وادلتهم
1-نظر الشهيدمحمد باقر الصدر (قدس سره)
تجرّد النفس ومغايرتها للجسم
إنّ النفس مجرّدة عن المادّة ومغايرة للجسم، والدليل على ذلك زائدا على ما عرفته من الدليل النقلي القطعي في القرآن، وما عرفته من دلالة الرؤى الصادقة، مجموعة من الأدلة العقلية نشير فيما يلي إلى بعضها:
الأوّل ـ وحدة الأنا :
فقد ثبت علميّاً أنّ خلايا الجسم تتبدّل تماماً خلال سبع سنين تقريباً، فالذي عمّر سبعين سنة قد تبدّل بكلّ خلاياه عشر مرّات تبدّلاً تامّاً، فكيف لو فرضنا أحداً عمّر آلاف السنين، ومع ذلك يحسّ بوجدانه بوحدة الأنا من أوّل عمره إلى آخره، وليس هذا إلاّ عبارة عن الإحساس الوجداني بالنفس المجرّدة عن المادّة.
الثاني ـ تجرّد العلم والعواطف والإرادة :
نحن نحسّ بالوجدان بتجرّد علمنا وإرادتنا وعواطفنا كالحبّ والبغض، ولا ينافي ذلك تلازماً بين هذه الاُمور ونقوش أو تموّجات أو نحو ذلك في المخّ المادّي نتيجةً للتفاعل الموجود بين النفس والجسم مادامت العلاقة بينهما موجودة والارتباط بينهما محفوظاً، فتلك التبدّلات المخّية إمّا هي مقدّمات لتحقّق العلم والعواطف والإرادة في النفس، وإمّا هي نتائج لتلك، ولا ينافي ذلك تجرّد العلم والعواطف والإرادة، وعندئذ نقول: من الواضح أنّ هذه الاُمور بحاجة إلى مصبّ مجرّد، ولا يمكن أن يكون مصبّها الجسم الذي لا مسانخة بينه وبينها، وهذا ما يجعلنا نجد بوضوح نفسنا المجرّدة عن الموادّ، وأعني بذلك الأنا.
الثالث ـ استحالة انطباق الكبير على الصغير :
نحن نحسّ بوجداننا بحضور مساحة هندسيّة لدينا وبأحجام معينة وسعة طريفة محدّدة، وليس هذا عبارة عن الإحساس بالعين المادّية للمساحة الخارجة عن نفوسنا، والكائنة في محل منفصل عنّا بفاصل أمتار أو أكثر; إذ قد بطلت لدى العلماء نظرية حصول الرؤية بخروج أشعة من العين ووقوعها على المرئيات الخارجية، وكيف يكون إدراكنا للمرئيات عبارة عن الإدراك المباشر للواقع والحقيقة في حين أنّ الرؤية قد تنفصل عن زمان وجود المرئي، كما في نجم تفتّت وانتهى ثم وصلنا شعاعه الذي تحرّك عنه إلينا بعد آلاف السنين ممّا يبرهن على أنّ عملية الرؤية ليست مجرّد اتّصال بين الأشعة الصادرة من العين وبين الجسم الخارجي، بل هي وصول أشعة الجسم الخارجي إلى العين ولو بعد انعدام المرئي بآلاف السنين، وعليه فعملية الرؤية بقدر ما هي قضيّة مادّية هي انطباع لأشعّة المرئي في الجهاز العصبيّ المادّي الخاصّ بالباصرة المادّية، وهي صغيرة إلى حدّ يمكن انطباقها على عدسة العين أو على الجهاز العصبي أو على المخّ، ويستحيل أن تمتلك سعة الجسم الخارجي أو المساحة الخارجية وحجمها; لاستحالة انطباق الكبير على الصغير، أمّا المدرَك لنا في وقت الرؤية والمتمتّع بالحجم الهندسي والمساحة الواسعة المناسبة للعين المرئية فليس إلاّ أمراً مجرّداً عن المادّة، ومنطبعاً في محلّ غير مادّي وهي النفس
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
______________
1) راجع آخر كتاب فلسفتنا، بحث الإدراك في مفهومه الفلسفي
 
2-نظرية الفلاطون:
تتلخص نظرية أفلاطون في النقاط التالية:
1- النفس تماما كالصورة التي تنعكس على المرآة، لها حدود وليس لها جرم وكثافة، كذلك يوجد عالم يدعى بعالَم المُثُل، كل حقائقها ذات حدود ولكن دون كثافة. وهذه المثل هي صور الحقائق الأرضية جميعا، فالإنسان مثلا: يعيش على الأرض أفراده أما هو فإنه واحد يعيش في عالم المُثُل، وهو (أي حقيقة الإنسان) شبح هناك يمثل كل الناس في كل العصور.
2- والإنسان كان قبل تنزله إلى الأرض يسرح في عالم المثل، ولذلك فقد أحاط علما بكل الصور (أو المثل) التي كانت موجودة فيه، ولكنه نسيها عندما تقولب بالمادة وهبط إلى عالم الجسد.
3- الا ان أقل تنبه يكفي الإنسان لتذكر ما كان قد نسيه في عالم الدنيا، فيعود يعرف الحقائق التي عرفها في عالم المثل.. ولذلك سميت نظريته بـ ( النظرية الإستذكارية ) لأن الفكر، حسب هذه النظرية، ليس سوى إستعادة المعلومات، والعلم ليس الا إستعادة المحفوظات المنسية.
4- ان العقل البشري أسمى من ان يعرف الحقائق الجزئية، بل انه يعرف الكليات؛ أي المثل العامة فقط. فمثلا: حينما يعرف رجل زيدا فإنه لا يعرف بعقله الرجل المسمى بزيد، انما يعرف بعقله كلي الإنسان، أو صورة الإنسان بصفة عامة.
وترتكز هذه النظرية فيما يخص موضوعنا على أمرين؛ الأول: الاعتقاد بوجود الأرواح بصفة مستقلة عن الأجسام قبل خلق الأجسام. والثاني: ان العلم صفة أصيلة في ذات الإنسان ولسيت صفة طارئة على الإنسان.
والإسلام يقول بوجود الأرواح قبل الأبدان بفترة طويلة، حيث جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و آله: (خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام).
أما ان العلم صفة ذاتية للإنسان، فهذا ما يرفضه الإسلام، والسبب:
أ- لو كان العلم صفة الذات لم يجز ان يتخلف في لحظة عن الذات، ذلك ان الذات لا يفقد نفسه الا ساعة انعدامه. أترى ،هل يمكن ان يجهل الله سبحانه شيئا وهو يملك العلم بصفة ذاتيةهذا مع اننا نلاحظ: ان الإنسان لا يعلم ثم يعلم ثم ينسى ما علم. قال الله سبحانه، وهو يذكِّر بهذه الحقيقة الواضحة:
[وَمِنكُم مَن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَي لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً](النحل70).
ب- إن ذاتي الشيء لا يحدد.. ان الجهل والعدم والعجز من ذاتنا، ولذلك فهي غير محدودة، لأنها إذا كانت محدودة إذن لم تكن ذاتية لنا. أما العلم والإرادة والوجود والقوة فهي مواهب أو مكاسب، ولذلك فهي محدودة.
إذن فنظرية أفلاطون الإستذكارية مرفوضة بسبب واحد وهو انها تدَّعي ان العلم من ذات الإنسان.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
النظريات المطروحةحول اية الذر ومناقشتها من قبل اية الله سبحاني:
إنّ غاية ما يفيده ظاهر آية الميثاق هو أنّ اللّه أخذ من بني آدم ميثاقاً وعهداً على الإقرار بربوبيته .. وأمّا كيفية هذا الميثاق فلم يرد ـ في الآية المذكورة ـ أي توضيح بشأنها ... ولأجل هذا اختلف المفسرون المسلمون حول حقيقة هذا الميثاق واليك بعض النظريات في الامر
النظرية الأُولى المستندة إلى الأحاديث
 وتقول هذه النظرية ـ والتي لها سند حديثي, الذر مخلوقات ذات شعور وعقل كافيين سمعت ما قال اللّه لها و أخذ هذا الإقرار من بني آدم ليغلق عليهم باب الاعتذار والتعلّل يوم القيامة.
انتقادات على هذه النظرية
1. انّ أوضح دليل على قصور هذه النظرية هو عدم موافقتها للمدلول الظاهري للآية، لأنّ ظاهر الآية ـ مضافا عليه انّ الهدف من أخذ الميثاق ـ أساساً ـ هو أن يعمل الأشخاص بموجب ذلك الميثاق، والعمل فرع للتذكّر على كلام للعلاّمة الشريف المرتضى في (أماليه)
ويبقى ها هنا سؤال وهو : إذا كانت هذه النظرية تواجه تلك الإشكالات وتعاني من هذا القصور، فما هو مصير الأحاديث والروايات التي تسند هذه النظرية؟! وسيوافيك حق المقال فيها.
النظرية الثانية
 يحمل بعض المفسرين (وعلى رأسهم: الرماني وأبو مسلم وفريق آخر) هذه الآية على: التوحيد الفطري أي إنّ الإنسان خلق مؤمناً باللّه بمقتضى الفطرة الإلهية السليمة الموهوبة له، وسيظل بمعونة العقل الهادي إلى اللّه يبحث عن اللّه فهو ميثاق تكويني فطري، وجوابه ـ كذلك ـ تكويني فطري.على أنّ مثل هذا النوع من الحوار والاستيثاق شائع جداً في القرآن الكريم وكذا في محاوراتنا اليومية..
إشكالات هذه النظرية
1. أنّ ظاهر الآية حاك عن أنّ حادثة أخذ الميثاق قد تحقَّقت في الزمن السابق بدليل قوله : (وإذ أخذ) .
وعلى كل حال فإنّ ظرف توجه هذا الخطاب القرآني إلى النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ أو إلى المسلمين أو إلى عامة البشر هو ظرف نزول القرآن، ولكن ظرف وقوع أخذ الميثاق هو الماضي، ولذا جاءت الآية مبتدئة بـ «إذ» الذي هو بمعنى «واذكر إذ».
فإذا كانت الآية ناظرة إلى خلقة الإنسان وتكوينه مع الاستعدادات القابلة لهدايته إلى اللّه ـ كما تقوله النظرية هذه ـ ففي هذه الصورة يكون ظرف هذا الحادث وظرف الخطاب واحداً، وهذا خلاف ظاهر الآية حيث يفيد تعدّد ظرفي أخذ الميثاق، والخطاب.
2. إذا كان هدف الآية هو بيان أنّ الإنسان خلق مع سلسلة من القابليات الفطرية والعقلية التي تهديه إلى اللّه، ففي هذه الصورة لماذا يقول اللّه:
 (وأشهدهم على أنفسهم) ؟
 في حين كان المناسب أن يقول:
فعرف نفسه لهم.
ولماذا قالوا في آية أُخرى:
 (بلى شهدنا) وكان الأحرى أن يقولوا: بلى عرفناك؟
. انّ تفسير قول اللّه تعالى (ألست بربكم قالوا بلى) بالخطاب والجواب «التكوينيين» وان كان صحيحاً في حد ذاته إلاّ أنّه خلاف الظاهر قطعاً .. إذ أنّ ظاهر الآية هو الخطاب والجواب «التشريعيين».
ومعلوم أنّ الأخذ بما هو خلاف الظاهر لا يصح ما لم يدل عليه دليل، وما لم يصرفنا عن الأخذ بالظاهر صارف وجيه.
النظرية الثالثة
 وهي ما ذهب إليها وارتآها الأُستاذ الجليل العلاّمة الطباطبائي، مؤلّف تفسير الميزان، حيث فسر آية الميثاق هذه، بنحو نذكر توضيحه قبل نقل نص ما قاله حرفياً:
وإليك هذا التوضيح في نقاط:
1. انّ الزمان ظاهرة تدريجية الظهور، فأجزاء الزمان ـ بحكم كونه حادثاً ـ لا تجتمع في مكان واحد بساط الزمن.
2. لا شك أنّ حوادث العالم تنقسم بالنسبة إلينا إلى الماضي. الحاضر . المستقبل.
ولكل حادث زمان ومكان خاصان، ولا يمكن للإنسان الذي يعيش ضمن نطاق الزمان أن يشهد كل الحوادث دفعة واحدة وفي نظرة واحدة، ولا يمكن أن تجتمع كلها لديه.
ولكن الناظر إلى الحوادث لو شاهدها من فوق نطاق الزمان والمكان، ونظر إلى كل أجزاء الزمان على أنّها ظاهرة واحدة فحينئذ ينتفي مفهوم الماضي والحاضر والمستقبل.
3. للإنسان ولغيره من أجزاء هذا العالم ممّا يعيش ضمن نطاق الزمان وجهان:
وجه بالنسبة إلى اللّه , ووجه بالنسبة إلى الزمان.
فهي من جهة كونها مرتبطة باللّه، وكون اللّه تعالى محيطاً بها لا يكون شيء من أجزائها بغائب عن بعضها، كما لا يكون اللّه بغائب عنها
في هذا المحاسبة يعمد الطباطبائي إلى تقسيم العالم إلى وجهين:
الباطن , والظاهر.
فيكون الوجود الجمعي للعالم هو الباطن، والوجود الجزئي المتفرق هو الظاهر.
ويستفيد الأُستاذ الطباطبائي لإثبات هذين الوجهين من بعض الآيات، ويقول: إنّ جملة «كن فيكون» إشارة إلى هذين الجانبين الجمعي والتدريجي.
من هذا البيان نستنتج أنّ الآية المبحوثة [أي آية أخذ الميثاق ]ناظرة إلى حالة الوجود والحضور الجمعي الدفعي عند حضرة ذي الجلال حضوراً لا تتصور فيه غيبة، وكأنّ كل أبناء آدم أخذوا وجمعوا من ظهور آبائهم، وحضروا عند اللّه، وفي هذه الحالة من الطبيعي أن يجد كل إنسان ربه، ووجدانه للّه تعالى دليل واضح على وجود اللّه وربوبيته.
ولكن استقرار الإنسان ضمن نطاق الزمان وتطورات الحياة أشغله بحيث نسي نفسه وغفل عن علمه الحضوري باللّه [أي علمه باللّه الناشئ من حضوره بين يديه سبحانه ].
وهذا نص ما قاله العلاّمة الطباطبائي في ميزانه:
«إنّ لكل شيء عند اللّه وجوداً وسيعاً غير مقدّر في خزائنه، وإنّما يلحقه الأقدار إذا نزله إلى الدنيا مثلاً:
 
 
 
أسئلة حول هذه النظرية
 هناك أسئلة تفرض نفسها حول هذه النظرية لابد من طرحها هنا، لأنّه ما لم يجب عليها بإجابات قاطعة لا يمكن الاعتماد على هذه النظرية .
وإليك فيما يأتي بعض هذه الأسئلة:
1. لا شك أنّ هذا العالم يتجلّى للشخص المحيط الناظر إليه من فوق الزمان والمكان على غير ما يتجلّى للمحاط الغارق في الزمان والمكان فإنّه يمكن أن ينظر إلى هذا العالم من منظارين:
أ. من منظار الناظر المحيط بالزمان والمكان.
وفي هذه الصورة لا وجود للتفرّق والتشتّت بل ما يراه هو الوجود الجمعي للأشياء، والظواهر.
ب. من منظار الناظر المحاط بالزمان والمكان.
وفي هذه الصورة لا يرى إلاّ الوجود المتفرّق المتشتّت المتناثر التدريجي لجميع الظواهر والحوادث.
ولكن هذا الاختلاف في السعة والضيق في المرأى، هل هو عائد إلى السعة والضيق في الرائي، ونظرة الناظر بمعنى أنّ في الأُولى يكون لدى الرائي قدرة على النظر الواسع فيما يكون الرائي في الصورة الثانية فاقداً لهذه القدرة، أم أنّ هذا الاختلاف يرجع إلى نفس الظواهر والحوادث؟
 لا شك أنّ هذا الاختلاف لا يرتبط بذات الكون وذات الحوادث والظواهر، بل هو مرتبط بسعة رؤية الناظر إن كان محيطاً، تلك السعة التي تمكّنه من مشاهدة كل نقوش البساط وألوانه، وكل تموّجات النهر وتعرّجاته، وكل عربات القطار دفعة واحدة كما في الأمثلة السابقة.
في حين أنّ فقدان هذه السعة في رؤية الشخص الآخر يجعله لا يرى في كل لحظة إلاّ حادثة واحدة فقط، وإلاّ تموّجاً واحداً من النهر، وإلاّ لوناً واحداً من ألوان البساط.
ومن هذا البيان يتبيّن أنّه ليس للعالم وجهان ونشأتان:
نشأة باسم الباطن.
وأُخرى باسم الظاهر.
وبعبارة أُخرى انّه ليس للظواهر والحوادث مرحلتان:
مرحلة الوجود الجمعي الدفعي.
ومرحلة الوجود التدريجي.
بل ليس للظاهرة ـ في الحقيقة ـ تحقّقان ووجودان إنّما هو وجود واحد، وتحقّق واحد، يرى تارة في صورة المجتمع، وأُخرى في صورة المتفرّق.
وأمّا الاختلاف ـ لو كان ـ فهو يرجع إلى قدرة الملاحظ وسعة نظرته وضيقها، وليس إلى ذات الحوادث والظواهر.
2. انّ حضور الحوادث والظواهر عند اللّه دليل على علم اللّه بها جميعاً، لأنّ حقيقة العلم ليست إلاّ حضور المعلوم عند العالم وحيث إنّ موجودات العالم من فعله سبحانه وقائمة به فهي إذن حاضرة لديه.
ونتيجة هذا الحضور ليست سوى علم اللّه بها ولكن لا يدل مثل هذا الحضور على علم الموجودات هي بالخالق الواحد سبحانه .).
3. انّ هذا التوجيه والتفسير لآية الميثاق بعيد عن الأذهان العامة، ولا يمكن إطلاق اسم التفسير عليه، بل هو للتأويل أقرب منه إلى التفسير .
روايات حول عالم الذر من تفسير البرهان والتعليق عليها :
عن أبي بصير، قال : قلت لأبي عبد اللّه ـ عليه السَّلام ـ :كيف أجابوا وهم ذر؟ فقال عليه السَّلام : «جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه».
ففي هذه الأحاديث ـ كما نلاحظـ ليس هناك أي كلام عن الاستشهاد والشهادة اللفظيين بل قال الإمام : «جعل فيهم» وهي كناية عن وجود الإقرار التكويني في تكوينهم.
أما الحديث 7 فقد روي عن عبد اللّه بن سنان قال: سألت أبا عبد اللّه (الصادق) ـ عليه السَّلام ـ عن قول اللّه (فطرة اللّه التي فطر الناس عليها) ما تلك الفطرة؟
 قال: «هي الإسلام فطرهم اللّه حين أخذ ميثاقهم على التوحيد، قال: ألست بربكم، وفيه المؤمن والكافر».
وهذا الحديث كما هو واضح يفسر الميثاق المذكور في آية الذر بالفطرة ممّا يكون تصريحاً بأنّ الاستيثاق وأخذ الميثاق والإقرار أمر فطري جبلي تكويني.
وفي الحديث  جاء عن المفضل بن عمر، عن الصادق جعفر بن محمد عليهما السَّلام في حديث طويل قال فيه:«قال اللّه عزّ وجلّ لجميع أرواح بني آدم ألست بربكم؟ قالوا: بلى، كان أوّل من قال بلى محمد ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ فصار بسبقه إلى بلى سيد الأوّلين والآخرين وأفضل الأنبياء والمرسلين» .
وليس في هذا الحديث أي كلام عن اعتراف الذر وإقرار بني آدم وهم على هيئة ذرات صغيرة، ولذلك فهو وإن لم يكن صريحاً في النظرية الثانية «القائلة بالإقرار التكويني لا اللفظي من جانب الذرية» ولكنّه قابل للانطباق عليها.
ثانياً: أنّ بعض هذه الأحاديث صريحة في أنّ الإقرار والاعتراف بالربوبية جاء من جانب الأرواح كما لاحظنا في الحديث
أمّا ما يدل من تلك الأحاديث (المنقولة في تفسير البرهان) على النظرية الأُولى فهي 3 ، 4، 8 ، 11، 14، 17، 18، 27، 29.
وعددها كما هو الظاهر (9) أحاديث، ولكنّنا لو أمعنا النظر فيها لوجدنا أنّ عددها الحقيقي لا يتجاوز 5 أحاديث لا أكثر، لأنّ خمسة من هذه الأحاديث رواها «زرارة بن أعين» بمعنى أنّ آخر راو في هذه الأحاديث من الإمام هو زرارة، ومن المسلم أنّ راوياً واحداً لا يسأل عن شيء من الإمام خمس مرات، وأمّا نقل رواية زرارة (التي هي ـ في الحقيقة ـ رواية واحدة) في خمس صور، فلتعدد من روى هذا الحديث عن «زرارة»، ولذلك اتّخذ الحديث الواحد طابع التعدّد والكثرة، وهذا لا يوجب أن يعد الحديث الواحد خمسة أحاديث وفي هذه الحالة ينخفض عدد الأحاديث المؤيدة للنظرية الأُولى من 9 إلى5.
يبقى أنّ الأحاديث الأربعة الأُخرى (أعني: 8 و 14 و 17 و 18) فهي مبهمة نوعاً ما، وليست صريحة في المقصود .
 
 
 
 
 
اراء العلماء في خلق الارواح قبل الاجساد:
1- الشيخ المفيد:
قال الشيخ المفيد ( قدس سره ) في كتابه (المسائل السروية 52) :
((وأما الخبر بأن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام, فهو من أخبار الآحاد, وقد روته العامة كما روته الخاصة ( معاني الأخبار 108 ح 1 وفي اسناده محمد بن سنان, وهو ضعيف, وأخرجه أيضاً ابن الجزري في الموضوعات 1 / 401, والسيوطي في اللآلي المصنوعة 1 / 199, والشوكاني في الفوائد المجموعة 382 / 94 ) وليس هو مع ذلك بما يقطع على الله سبحانه بصحته, وإنما نقله رواته لحسن الظن به .
وإن ثبت القول فالمعنى فيه : إن الله تعالى قدّر الأرواح في علمه قبل اختراع الأجساد, واخترع الأجساد, ثم اخترع لها الأرواح, فالخلق للأرواح قبل الأجساد خلق تقدير في العلم كما قدمناه, وليس بخلق لذواتها كما وصفناه)) .
2-العلامة المجلسي (قدس سره) في كتابه (بحار الأنوار 58 / 141) :
((إعلم أن ما تقدّم من الأخبار المعتبرة في هذا الباب, وما أسلفناه في أبواب بدء خلق الرسول ( صلى الله عليه وآله ) والائمة ( عليهم السلام ) ـ وهي قريبة من التواتر ـ دلت على تقدّم خلق الأرواح على الأجساد, وما ذكروه من الأدلة على حدوث الأرواح عند خلق الأبدان مدخولة, لا يمكن رد تلك الروايات لأجلها )) .
وجاء في هامش البحار :
(( الكلام حول روايات خلق الأرواح قبل الأبدان, يقع في جهات :
1ـ في صدورها : هل تكون مقطوعة الصدور أو لا ؟ وعلى فرض عدم القطع بصدورها, هل يوجد دليل على وجوب التعبد بها أو لا ؟
2ـ في دلالتها : هل تدل دلالة صريحة على تقدم وجود الأرواح على أبدانها, خارجاً بالتقدم الزماني أو لا ؟
3ـ في توافقها مع الأدلة العقلية .
فنقول : أما من الجهة الأولى, فهي غير بالغة حد التواتر, فلا يحصل القطع بصدورها عادة, وأدلة حجية الخبر الواحد, قاصرة عن غير ما يتعلق بالأحكام الفرعية العملية, فلا يوجد دليل على وجوب التعبد بها .
وأما من الجهة الثانية, فلا ريب في ظهورها في ذلك في حد نفسها, وإن لم يبلغ إلى مرتبة النص .
وقد أوّل الشيخ المفيد الخلق بالتقدير, كما أنه يمكن حملها على نوع من التمثيل والأستعارة, إذا وجد دليل قطعي معارض لمدلولها .
3-أصحاب مدرسة صدر المتألهين:
دار البحث بين الفلاسفة حول حدوث النفس وقدمها, وذهب, إلى أنها تحدث بحدوث البدن, غير بالغة حد التجرد العقلي متحركة نحوه, النفس وإن كانت أمراً متعلقاً بالمادة, بل ناشئاً عنها ومتحداً بها, إلا أنها حين ما تدخل في حظيرة التجرد, تجد نفسها محيطة بالبدن, من ناحية البدء والنهاية, وأن شعاعها يمتد إلى ما قبل حدوث البدن, كما أنه يمتد إلى ما بعد انحلاله .
 
.
 
بقلم الدكتورة مواهب الخطيب .